فصل: اضطراب الناس بالقاهرة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **


وقبل أن يعدي السلطان النيل نزل بدار على شاطىء نيل مصر ودخل الحمام التي بجوار الجامع الجديد واغتسل ظهر الجمعة ثم خرج إلى الجامع الجديد وصلى به الجمعة ثم عدى النيل وهو في كل ذلك يحمل على الأكتاف والذي يتولى حمله من خاصكيته جماعة منهم‏:‏ خجا سودون السيفي بلاط الأعرج وتنبك من سيدي بك الناصري البجمقدار المصارع ثم جاني بك من وأقام السلطان يومه بالجيزة ثم ركب المحفة وسار بأمرائه وعساكره إلى أن وصل إلى الطرانة فاشتد به المرض فتجلد اليوم الأول والثاني فأفرط به الإسهال حتى أرجف بموته وكادت تكون فتنة من كثرة كلام الناس واختلاف أقوالهم إلى أن ركب السلطان من الطرانة في النيل عجزًا عن المحفة وعاد إلى جهة القاهرة حتى نزل بر منبابة فأقام بها حتى نحر قليلًا من ضحاياه‏.‏

ثم ركب النيل في الحراقة وعدى إلى بولاق في آخر نهار العيد ونزل في بيت كاتب السر ابن البارزي على عادته وبات به تلك الليلة‏.‏

وأصبح من الغد ركب في المحفة وطلع إلى قلعة الجبل في يوم الثلاثاء حادي عشر ذي الحجة وهو شديد المرض من الإسهال والزحير والحصاة والحمى والصداع والمفاصل‏.‏

وهذه آخر ركبة ركبها الملك المؤيد ثم لزم الفراش إلى أن مات حسبما نذكره‏.‏

ولما كان ثامن عشر ذي الحجة قدم كتاب الملك العادل سليمان الأيوبي صاحب حصن كيفا من ديار بكر على السلطان يتضمن موت الأمير قرا يوسف بن قرا محمد صاحب تبريز والعراق في رابع عشر ذي القعدة مسمومًا فيما بين السلطانية وتبريز وهو متوجه لقتال القان معين الدين شاه رخ بن تيمورلنك فلم يتم سرور السلطان بموته لشغله بنفسه‏.‏

ثم في ثامن عشرين ذي الحجة وصل مبشر الحاج فطلبه السلطان وسأله عن أمور الحجاز‏.‏

كل ثم في يوم السبت تاسع عشرينه أرجف في باكر النهار بموت السلطان وكان أغمى عليه فلما أفاق قيل له إن بعض الناس يقول‏:‏ سيدي أحمد ولد السلطان صغير صغرًا لا تصح سلطنته‏.‏

وشاوروه في إثبات عهده فرسم لهم بذلك فأثبت عهده على قاضي القضاة زين الدين عبد الرحمن التفهني الحنفي بالسلطنة ثم نفذ العهد على بقية القضاة‏.‏

فكثر عند ذلك اضطراب الناس بالقاهرة واختلفت الأقوال في ضعف السلطان وأمره وتوقعوا فتنة واشتد خوف خواص السلطان ونقلوا ما في دورهم من القماش المثمن وغير ذلك‏.‏

واستهل المحرم من سنة أربع وعشرين وثمانمائة والسلطان ملازم للفراش وقد أفرط به الإسهال الدموي مع تنوع الأسقام وتزايد الآلام بحيث إنه لم يبق مرض من الأمراض حتى اعتراه في هذه الضعفة غير أنه صحيح العقل والفهم طلق اللسان‏.‏

فلما كان يوم الخميس خامس المحرم سنة أربع وعشرين المذكورة طلع الأمراء والأعيان إلى قلعة الجبل وجلسوا على باب الستارة فخرج إليهم بعض الخدام واعتذر لهم عن دخولهم بشدة ضعف السلطان فانصرفوا وكانوا على هذا مدة أيام يطلعون في كل يوم موكب ويجلسون بباب الدور ثم ينزلون من غير أن يجتمعوا بالسلطان‏.‏

هذا وقد افترقت الأمراء والعساكر فرقًا‏:‏ فرقة من أعيان المؤيدية وكبيرهم الأمير ططر وقد خدعهم بتنميق كلامه وكثرة دهائه من أنه يقوم بنصرة ابن أستاذهم ويكون مدبر ملكه وهو كواحد منهم والأمر كله إليهم وهو معهم كيف ما شاؤوا ثم خوفهم من وثوب قجقار القردمي وركوبه لما في نفسه من الملك فمالوا إليه وانخدعوا له وصاروا من حزبه لا يخفون عنه أمرًا من الأمور هذا مع ما استمال ططر أيضًا جماعة كبيرة من خشداشيته الظاهرية في الباطن‏.‏

وفرقة من أعيان الأمراء والمماليك السلطانية من جنس التتر والسيفية وكبيرهم قجقار القردمي وهو ظنين بنفسه مع ما اشتمل عليه من سلامة الباطن - كما هي عادة جنس التتر - والجهل المفرط مع انهماكه في اللذات ليلًا ونهارًا‏.‏

وفرقة صارت بمعزل عن الفريقين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء وهم الظاهرية مماليك برقوق وكبيرهم الأمير تنبك ميق على أن ميلهم في الباطن مع خشداشهم ططر غير أنهم يخافون عواقب الأمور - لعدم أهلية ططر لذلك - لكونه خلقه مثل الأتابك ألطنبغا القرمشي مع من معه من الأمراء وعظمته في النفوس ومثل جقمق الأرغون شاوي الدوادار نائب الشام ومثل يشبك اليوسفي المؤيدي نائب حلب وأيضًا مثل قجقار القردمي أمير سلاح‏.‏

هذا مع كثرة المماليك المؤيدية وشدة بأسهم حتى لو أن ططر كفي هم الجميع من الأمراء لا يستطيع الوثوب على الأمر من هؤلاء المؤيدية فلذلك كف عن موافقته كثير من خشداشيته في مبادىء الأمر فلم يلتفت ططر إلى كلام متكلم وأخذ فيما هو فيه من إبرام أمره ولسان حاله يقول‏:‏ إما إكديش أو نشابة للريش فإنه كان في بحبوحة من الفقر والإفلاس والخوف من الملك المؤيد فلما وجد المقال قال وانتهز الفرصة إما بها أو عليها‏.‏

ولما عظم

 اضطراب الناس بالقاهرة

أجمع الأمراء على تولية التاج بن سيفة الشوبكي أستادار الصحبة ولاية القاهرة على عادته أولًا كخلع عليه بحضرة الأمراء في بعض دور القلعة باستقراره في ولاية القاهرة بعد عزل ابن فري فنزل التاج إلى القاهرة بخلعته وشق الشوارع وأبرق وأرعد وكثر من الوعيد لأرباب الفساد فلم يلتفت أحد إلى كلامه ومضى إلى بيته‏.‏

هذا وقد اشتد الأمر بالسلطان الملك المؤيد من الآلام والأرجاف تتواتر بموته والناس في هرج إلى أن توفي قبيل الظهر من يوم الاثنين تاسع المحرم من سنة أربع المقدم ذكرها فارتج الناس لموته ساعةً ثم سكنوا‏.‏

وطلع الأمراء القلعة وطلبوا الخليفة المعتضد بالله داود والقضاة والأعيان لإقامة الأمير أحمد بن السلطان في السلطنة فخلع عليه فتسلطن وتم أمره حسبما سنذكره في محله من هذا الكتاب في حينه إن شاء الله تعالى‏.‏

ثم أخذوا في تجهيز السلطان الملك المؤيد وتغسيله وتكفينه‏.‏

قال الشيخ تقي الدين المقريزي‏:‏ وأخذ في جهاز المؤيد وصلي عليه خارج باب القلعة وحمل إلى الجامع المؤيدي فدفن بالقبة قبيل العصر ولم يشهد دفنه كثير أحد من الأمراء والمماليك لتأخرهم بالقلعة‏.‏

واتفق في أمر المؤيد موعظة فيها أعظم عبرة وهو أنه لما غسل لم توجد له منشفة ينشف فيها فنشف بمنديل بعض من حضر غسله ولا وجد له مئزر تستر به عورته حتى أخذ له مئزر صوف صعيدي من فوق رأس بعض جواريه فستر به ولا وجد له طاسة يصب بها عليه الماء وهو يغسل مع كثرة ما خلفه من الأموال ومات وقد أناف على الخمسين‏.‏

وكانت مدة ملكه ثماني سنين وخمسة أشهر وثمانية أيام‏.‏

وكان شجاعًا مقدامًا يحب أهل العلم ويجالسهم ويجل الشرع النبوي ويذعن له ولا ينكر على طلب من إذا تحاكم إليه أن يمضي من بين يديه إلى قضاة الشرع بل يعجبه ذلك وينكر على أمرائه معارضة القضاة في أحكامهم‏.‏

وكان غير مائل إلى شيء من البدع‏.‏

وله قيام في الليل إلى التجهد أحيانًا‏.‏

إلا أنه كان بخيلًا مسيكًا يشح حتى بالأكل لجوجًا غضوبًا نكدًا حسودًا معيانًا يتظاهر بأنواع المنكرات فحاشًا سبابًا شديد المهابة حافظًا لأصحابه غير مفرط فيهم ولا مطيع لهم‏.‏

وهو أكبر أسباب خراب مصر والشام لكثرة ما كان يثيره من الشرور والفتن أيام نيابته بطرابلس ودمشق ثم ما أفسده في أيام ملكه من كثرة المظالم ونهب البلاد وتسليط أتباعه على الناس يسومونهم الذلة ويأخذون ما قدروا عليه بغير وازع من عقل ولا ناه من دين - انتهى كلام المقريزي برمته بعد تخبيط عظيم‏.‏

قلت‏:‏ وكان يمكنني الرد عليه في جميع ما قاله بحق غير أنني لست مندوبًا إلى ذلك فلهذا أضربت عن تسويد الورق وتضييع الزمان‏.‏

والذي أعرفه أنا من حاله أنه كان سلطانًا جليلًا مهابًا شجاعًا مقدامًا عاقلًا نقادًا‏.‏

حدثني الأمير أرنبغا اليوسفي الناصري - رحمه الله - قال‏:‏ كان المؤيد ينظر إلى الرجل وينقده بعينيه فيعرف من حاله ما يكتفي به عن السؤال عنه ثم يعطيه من الرزق والاقطاعات ما يليق بشأنه كما يصف الطبيب الحاذق إلى المريض من الدواء فإن كان الرجل أعجبه رقاه في أقل مدة إلى أعلى المراتب وإن كان غير ذلك شح عليه حتى بالاقطاع الذي يعمل عشرة آلاف درهم في السنة - انتهى كلام أرنبغا‏.‏

قلت‏:‏ هذا هو المطلوب من الملوك وإلا يضيع الصالح بالطالح‏.‏

وكان المؤيد عالي الهمة كثير الحركات والأسفار جيد التدبير حسن السياسة يباشر الأحكام بنفسه مع معرفة تامة وحذق وفطنة وجودة حدس في أموره عظيم السطوة على مماليكه وأمرائه هينًا مع جلسائه وندمائه طروبًا يميل إلى سماع الشعر والأصوات الطيبة على أنه كان يحسن أيضًا أداء الموسيقى ويقوله في مجالس أنسه‏.‏

وكان يميل إلى الدقة الأدبية ويفهمها بسرعة‏:‏ قيل‏.‏

نظر مرةً إلى اسمه وهو مكتوب على بعض الحيطان وقد كتب الدهان الشين من اسم شيخ بجرة واحدة فلما نظر المؤيد قال‏:‏ مسكين شيخ بلا سنينات وله أشياء كثيرة من ذلك وكان يشارك الفقهاء في أبحاثهم ويتصور أقوالهم ويطرح عليهم المسائل المشكلة هذا مع ميله لأرباب الكمالات من كل علم وفن وتعجبه المداعبة اللطيفة‏.‏

حدثني القاضي كمال الدين بن البارزي كاتب السر الشريف بالديار المصرية - رحمه الله - قال‏:‏ كان المؤيد جالسًا بالبارزية على المقعد المطل على النيل ومحمود بن الأمير قلمطاي الدوادار واقفًا بجانبه ووالدي من جهة أخرى وهو يقرأ القصص على السلطان وكان في جملة القصص قصة الشيخ عاشق محمود العجمي أحد ندماء السلطان فلما قرأ الوالد قصة عاشق محمود قال‏:‏ المملوك وأشار بيده إلى نفسه ثم قال‏:‏ عاشق محمود وأشار بإصبعه إلى محمود بن قلمطاي - وكان من أجمل الناس صورة - فلم يفطن لذلك أحد غير السلطان فضحك وقال‏:‏ تموت بهذه الحسرة‏.‏

وحدثني بعض أعيان المؤيدية قال‏:‏ كان الأمير طوغان الأمير آخور أرسل إلى جاني بك الساقي أحد خواص الملك المؤيد ألف دينار ليزوره فعرف جاني بك المذكور السلطان بذلك فاشتد غضب السلطان وأرسل في الحال خلف طوغان المذكور‏.‏

فلما تمثل بين يديه سأله السلطان بذلك فقال طوغان‏:‏ نعم أرسلت إليه ألف دينار ووالله العظيم لو لم يكن مملوكك لكنت ترسل أنت إليه عشرة آلاف دينار فتلومني أن أرسلت إليه ألف دينار‏!‏ - يقول ذلك وهو في غاية كل ذلك وهو محتفظ على ناموس الملك والسير على ترتيب من تقدمه من الملوك في سائر أموره وحركاته‏.‏

وقد تسلطن وأحوال المملكة غير مستقيمة مما جدده الملك الناصر فرج من الوظائف والاستكثار من الخاصكية حتى إن خاصكيته زادت عدتهم على ألف نفر فلا زال المؤيد بهم حتى جعلهم ثمانين خاصكيا كما كانت أيام أستاذه الملك الظاهر برقوق وكانت الدوادارية نحو ثمانين دوادارًا فلا زال حتى جعلهم ستة وكذلك الخازندارية والبجمقدارية والحجاب‏.‏

وكان يتأمر الشخص في أيامه ويقيم سنين ولم يسمح له بلبس تخفيفة على رأسه كل ذلك مراعاة لأفعال السلف‏.‏

وكان عارفًا بأنواع الملاعيب رأسًا في لعب الرمح وسوق البرجاس قويًا في ضرب السيف والرمي بالنشاب ماهرًا في فنون كثيرة جد وهزل لا يعجبه إلا الكامل في فنه‏.‏

دخلت إليه مرةً وأنا في الخامسة فعلمني - قبل دخولي إليه - بعض من كان معي أن أطلب منه خبزًا‏.‏

فلما جلست عنده وكلمني سألته في ذلك فغمز من كان واقفًا بين يديه وأنا لا أدري فأتاه برغيف كبير من الخبز السلطاني فأخذه بيده وناولنيه وقال‏:‏ خذ هذا خبز كبير مليح فأخذته من يده وألقيته إلى الأرض وقلت‏:‏ أعط هذا للفقراء أنا ما أريد إلا خبزًا بفلاحين يأتونني بالغنم والأوز والدجاج فضحك حتى كاد أن يغشى عليه وأعجبه مني ذلك إلى الغاية وأمر لي بثلاثمائة دينار ووعدني بما طلبته وزيادة - انتهى‏.‏

وكان يحسن تربية مماليكه إلى الغاية ولا يرقيهم إلا بعد مدة طويلة ولذلك لم يخمل منهم أحد‏.‏

بعد موته - فيما أعلم‏.‏

وكان يميل إلى جنس الترك ويقدمهم حتى إن غالب أمرائه كانوا أتراكًا‏.‏

وكان يكثر من استخدام السيفية ويقول‏:‏ هؤلاء قاسوا خطوب الدهر وتأدبوا ومارسوا الأمور والوقائع‏.‏

وكان عارفًا بتعبئة العساكر في القتال ثباتًا في الحروب محجاجًا في الأجوبة‏.‏

قيل له‏:‏ إن الناس تقول عنك إنك قتلت من أعيان الملوك نحو ثمانين نفسًا فقال‏:‏ ما قتلت واحدًا منهم إلا وقد استحق القتل قبل ذلك والسلطان له أن يقتل من اختار قتله وشنع عنه هذه المقالة من لا يعرف معناها من الأتراك الذين يقصر فهمهم عن إدراك المعاني‏.‏

وأما فعله من وجوه البر فكثير وله مآثر مشهورة به وعمائر كثيرة أعظمها‏:‏ الجامع المؤيدي الذي لم يبن في الإسلام أكثر زخرفة منه بعد الجامع الأموي بدمشق ثم تجديده لجامع المقياس ثم لمدرسة الخروبية بالجيزة وأشياء غير ذلك كثيرة‏.‏

وأما ما خلفه من الأموال والخيول والجمال والسلاح فكثير جدًا لم أقف على تحرير قدره‏.‏

وخلف من الأولاد ستة - فيما أعلم - ذكرين أحدهما الملك المظفر أحمد وأربع بنات الجميع دون البلوغ - انتهى والله سبحانه أعلم‏.‏

وهي سنة خمس عشرة وثمانمائة‏.‏

على أن السلطان الملك الناصر فرجًا حكم منها إلى يوم السبت خامس عشرين المحرم ثم حكم من يومئذ الخليفة المستعين العباس إلى أن خلع من السلطنة بالملك المؤيد هذا في يوم الإثنين مستهل شعبان فحكم المؤيد من مستهل شعبان إلى آخرها فهي على هذا التقدير أول سنة حكمها من سلطنته‏.‏

فيها - أعني سنة خمس عشرة وثمانمائة - توفي قاضي قضاة دمشق شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إسماعيل بن خليفة الدمشقي الشافعي المعروف بابن الحسباني في يوم الأربعاء عاشر شهر ربيع الأول بها عن خمس وسبعين سنة وأشهر‏.‏

وكان معدودًا من فقهاء الشافعية‏.‏

أفتى ودرس سنين وتولى قضاء دمشق وقدم القاهرة غير مرة‏.‏

وتوفي قاضي القضاة محب الدين محمد بن محمد بن محمد الحلبي الحنفي المعروف بابن الشحنة في يوم الجمعة ثاني عشر شهر ربيع الآخر بحلب عن ست وستين سنة‏.‏

وكان إمامًا عالمًا بارعًا أفتى ودرس بحلب ودمشق والقاهرة وولي القضاء بحلب ثم بدمشق ثم ولاه الملك الناصر فرج قضاء الديار المصرية لما حوصر بدمشق في يوم الخميس ثالث عشرين المحرم من هذه السنة عوضًا عن ناصر الدين بن العديم بحكم توجهه إلى شيخ ونوروز فلم تطل مدته وعزل من قبل المستعين وأعيد ابن العديم‏.‏

وتوفي الوالد - وهو على نيابة دمشق بها - في يوم الخميس سادس عشر المحرم‏.‏

ونذكر التعريف به‏:‏ فهو تغري بردي بن عبد الله من خواجا بشبغا‏.‏

كان رومي الجنس‏.‏

اشتراه الملك الظاهر برقوق في أوائل سلطنته وأعتقه وجعله في يوم عتقه خاصكيًا ثم جعله ساقيًا وأنعم عليه بحصة من شبين القصر ثم جعله رأس نوبة الجمدارية إلى أن نكب الملك الظاهر برقوق وخلع وحبس بسجن الكرك فحبس الوالد بدمشق فإنه كان قد توجه مع من توجه من عسكر السلطان لقتال الناصري ومنطاش فقبض عليه هناك وسجن‏.‏

ودام في سجن دمشق إلى أن أخرجه الأمير بزلار العمري نائب دمشق وجعله بخدمته هو ودمرداش المحمدي ودقماق المحمدي‏.‏

واستمر الوالد بدمشق إلى أن خرج الملك الظاهر برقوق من سجن الكرك فبادر الوالد بالتوجه إليه قبل أن يستفحل أمره وحضر معه الوقعة المشهورة التي كانت بينه وبين منطاش‏.‏

وحمل الوالد في الوقعة المذكورة على شخص من أمراء منطاش يسمى آقبغا اليلبغاوي فقنطره عن فرسه فسأل برقوق عنه فقيل له تغري بردي فتفاءل برقوق باسمه لأن معناه‏:‏ الله أعطى وأنعم عليه بإقطاع إمرة طبلخاناه دفعة واحدة مع أنه كان أنعم عليه قبل خروجه للسفر بإمرة ثم أرسله الملك الظاهر برقوق إلى مصر يبشر من بها بسلطنته ونصرته على منطاش ودخل الظاهر في أثره إلى مصر‏.‏

وبعد قليل أنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية ثم جعله رأس نوبة النوب ثم ولاه نيابة حلب بعد جلبان قراسقل‏.‏

ثم عزله وأنعم عليه بتقدمة ألف بمصر على خبز شيخ الصفوي الخاصكي أمير مجلس‏.‏

وقبل أن يخلع عليه بإمرة مجلس نقله إلى إمرة سلاخ عوضًا عن بكلمش العلائي بحكم مسكه‏.‏

واستمر على ذلك إلى أن كانت وقعة الأتابك أيتمش مع الملك الناصر فرج في سنة اثنتين وثمانمائة‏.‏

وكان الوالد قد انضم على أيتمش هو وجماعة من الأمراء - حسبما ذكرناه في ترجمة الملك الناصر فرج - وانهزم الجميع بعد الوقعة وخرجوا من مصر إلى الأمير تنم نائب الشام وعادوا صحبته فانكسر تنم أيضًا وقبض على الجميع وقتلوا بقلعة دمشق إلا الوالد لشفاعة أم الملك الناصر فيه وآقبغا الأطروش وقتل من عداهما‏.‏

ودام الوالد بسجن قلعة دمشق إلى أن أطلق وتوجه إلى القدس بطالًا بسفارة أم الملك الناصر أيضًا فدام بالقدس إلى أن طلبه الملك الناصر بغزة وخلع عليه بنيابة دمشق عوضًا عن سودون قريب الملك الظاهر برقوق بحكم أسره مع تيمور‏.‏

فحكم الوالد دمشق مدة ثم انهزم مع الملك الناصر فرج إلى الديار المصرية واستولى تيمور على دمشق‏.‏

وأنعم الملك الناصر فرج على الوالد بتقدمة ألف بالقاهرة فدام مدة يسيرة وخلع عليه أيضًا بإعادته لنيابة دمشق بعد خروج تيمور منها كل ذلك في سنة ثلاث وثمانمائة‏.‏

فتوجه الوالد إليها وأقام بها إلى أن بلغه نية الملك الناصر بالقبض عليه ففر منها وتوجه إلى دمرداش نائب حلب وعصيا معا ووقع لهما أمور وحروب إلى أن انهزما‏.‏

وتوجه الوالد إلى بلاد التركمان فأقام بها مدة إلى أن طلب إلى الديار المصرية وأنعم عليه بتقدمة ألف وأجلس رأس الميسرة أتابكًا‏.‏

واستمر على ذلك إلى أن اختفى الملك الناصر فرج وخلع بأخيه المنصور عبد العزيز فخرج الوالد من الديار المصرية على البرية بجماعة من مماليكه إلى أن توجه إلى القدس فدام في برية القدس إلى أن عاد الملك الناصر أفرج إلى السلطنة ودخل على الأخت وكان الناصر عقد عقده عليها قبل خلعه بحضرة الوالد فلما تسلطن ثانيًا دخل بها في غيبة الوالد‏.‏

ثم أرسل الناصر فرج بطلب الوالد فحضر الوالد على حاله أولًا إلى أن خلع عليه الملك الناصر باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية عوضًا عن يشبك الشعباني في سنة عشر وثمانمائة فدام على ذلك إلى أن نقل إلى نيابة دمشق في أواخر سنة ثلاث عشرة وثمانمائة على كره منه بعد واقعة الكرك - وقد ذكرنا سبب ولايته في ترجمة الملك الناصر لما كان على حصار الكرك - فدام على نيابة دمشق إلى أن مات في ولايته هذه وهي الثالثة لنيابة دمشق ودفن بتربة الأمير تنم معه في فسقية واحدة‏.‏

ولا أعلم من أخباره شيئًا لصغر سني في حياته فإن كان مشكور السيرة فالله تعالى ينفعه بفعله وإن كان غير ذلك فالله تعالى يرحمه بفضله‏.‏

وخلف الوالد عشرة أولاد ستة ذكور وأربع إناث أسن الجميع خوند فاطمة توفيت سنة ست وأربعين ثم الزيني قاسم في قيد الحياة ومولده قبل القرن ثم الشرفي حمزة توفي سنة تسع وأربعين بالطاعون ثم بيرم ماتت في سنة ست وعشرين ثم هاجر توفيت سنة خمس وأربعين ثم إبراهيم توفي سنة ست وعشرين ثم محمد مات سنة تسع عشرة وثمانمائة ثم إسماعيل مات سنة ثلاث وثلاثين بالطاعون ثم شقراء في قيد الحياة ثم كاتبه عفا الله تعالى عنه وأنا أصغر الجميع ومولدي بعد سنة إحدى عشرة وثمانمائة تخمينًا‏.‏

وخلف الوالد من الأموال والسلاح والخيول والجمال شيئًا كثيرًا إلى الغاية استولى على ذلك كله الملك الناصر فرج لما عاد إلى دمشق منهزمًا من الأمير شيخ ونوروز ثم قتل الملك الناصر بعد أيام وتركنا فقراء من فقراء المسلمين فلم يضيعنا الله سبحانه وتعالى وأنشأنا على أجمل وجه من غير مال ولا عقار ولله الحمد‏.‏

وتوفي الأمير سيف الدين بكتمر بن عبد الله الظاهري المعروف بجلق بالقاهرة في ثامن جمادى الآخرة من مرض تمادى به نحو الشهرين‏.‏

وأصل ضعفه أن عقربًا لسعته بطريق دمشق في عوده إلى القاهرة صحبة الخليفة المستعين بالله‏.‏

وبموته خلا الجو للملك المؤيد شيخ حتى تسلطن فإنه كان أمر عليه من نوروز الحافظي‏.‏

وكان بكتمر أميرًا جليلًا شجاعًا مهابًا كريمًا متجملًا في مماليكه ومركبه ومأكله وقد ولي نيابة صفد ثم نيابة طرابلس ثم نيابة دمشق غير مرة ووقع له حروب مع الملك المؤيد شيخ أيام إمرته حسبما ذكرنا ذلك كله مفصلًا في ترجمة الملك الناصر فرج - رحمه الله‏.‏

وقتل في هذه السنة جماعة كبيرة في واقعة الملك الناصر مع الأمراء في اللجون وغيره‏.‏

وممن قتل في هذه الوقعة الأمير سيف الدين مقبل بن عبد الله الرومي الظاهري أحد مقدمي الألوف بالديار المصرية - وهو الذي كان زوجه السلطان الملك الناصر بأخته خوند سارة زوجة الأمير نوروز الحافظي - والأمير سيف الدين ألطنبغا بن عبد الله المعروف بسقل والأمير سيف الدين بلاط بن عبد الله الناصري الأعرج شاد الشراب خاناه - وكان ممن قبض عليه في وقعة اللجون - ووسطه الأمير شيخ المحمودي بعد أيام وكان بلاط المذكور من مساوىء الدهر فاسقًا متهتكًا زنديقًا يرمى بعظائم في دينه‏.‏

قيل إنه كان يقول للملك الناصر فرج‏:‏ أنت أستاذي وأبي وربي ونبي أنا لا أعرف أحدًا غيرك وكان يسخر ممن يصلي ويضحك عليه وعد قتله من حسنات الملك المؤيد شيخ - انتهى‏.‏

وقتل الأمير بلاط الظاهري أمير علم وكان أيضًا ممن يباشر قتل خشداشيته المماليك الظاهرية فوسطه أيضًا المؤيد كل ذلك قبل سلطنته والملك الناصر محصور بدمشق‏.‏

وتوفي الأمير سيف الدين سودون بن عبد الله الظاهري المعروف بسودون الجلب بعد أن ولي نيابة طرابلس ولم يدخلها ثم ولي نيابة حلب فتوجه إليها وهو مريض من جرح أصابه في حصار الملك الناصر فرج فمات منه في شهر ربيع الآخر‏.‏

وكان من الشجعان يحكى عنه أعاجيب من خفته وشجاعته وسرعة حركته وقد تقدم ذكره في عدة مواطن وهو أستاذ الأمير الكبير يشبك السودوني المشد أتابك العساكر بديار مصر في دولة الملك الظاهر جقمق‏.‏

وتوفي الأمير سيف الدين يشبك بن عبد الله العثماني الظاهري أحد مقدمي الألوف بالديار المصرية في يوم الجمعة أول صفر من جرح أصابه في رأسه عند حصار دمشق‏.‏

وكان من أعيان المماليك الظاهرية وممن انضم مع الملك المؤيد شيخ أيام تلك الفتن‏.‏

وتوفي السلطان ملك الهند صاحب بنجالة غياث الدين أبو المظفر ابن السلطان إسكندر شاه‏.‏

وكان من أجل ملوك الهند وممالكه متسعة جدًا‏.‏

وتوفي الأمير سيف الدين قطلوبغا بن عبد الله الخليلي نائب إسكندرية بها في هذه السنة‏.‏

وتوفي الشيخ جمال الدين عبد الله بن محمد بن طيمان المعروف بالطيماني الشافعي‏.‏

قتل بدمشق في الفتنة ليلة الجمعة ثامن صفر وكان من الفضلاء‏.‏

انتقل من القاهرة إلى دمشق وسكنها‏.‏

وتوفي الشيخ شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن عماد بن علي بن الهائم المصري الشافعي بالقدس‏.‏

وكان فقيهًا بارعًا في الحساب والفرائض وله مشاركة في فنون‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ثلاثة أذرع سواء‏.‏

مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعًا وثمانية عشر إصبعًا‏.‏

السنة الثانية من سلطنة المؤيد شيخ وهي سنة ست عشرة وثمانمائة‏.‏

فيها توفي الشيخ الإمام فخر الدين عثمان بن إبراهيم بن أحمد البرماوي الشافعي شيخ القراء بمدرسة الملك الظاهر برقوق في يوم الاثنين تاسع عشر شعبان فجأة بعد خروجه من الحمام‏.‏

وكان بارعًا في الفقه والحديث والقراءات والعربية وغير ذلك وتصدى للإقراء سنين‏.‏

وتوفي قاضي القضاة صدر الدين علي بن أمين الدين محمد بن محمد الدمشقي الحنفي المعروف بابن الأدمي قاضي قضاة دمشق وكاتب سرها ثم قاضي القضاة بالديار المصرية في يوم السبت ثامن شهر رمضان بالقاهرة وهو قاض‏.‏

ومولده بدمشق في سنة سبع وستين وسبعمائة‏.‏

وكان إمامًا بارعًا أديبًا فصيحًا ذكيًا‏.‏

ولي نظر جيش دمشق ثم كتابة سرها ثم قضاءها ثم نقله الملك المؤيد إلى الديار المصرية وولاه قضاءها بعد عزل قاضي القضاة ناصر الدين بن العديم ثم جمع له بين القضاء وحسبة القاهرة إلى أن مات‏.‏

ولما ولي كتابة السر بدمشق بعد عزل الشريف علاء الدين قال فيه العلامة شهاب الدين أحمد بن حجي‏:‏ الطويل تهن بصدر الدين يا منصبًا سما وقل لعلاء الدين أن يتأدبا له شرف عال وبيت ومنصب ولكن رأينا السر للصدر أنسبا وفيه يقول الشيخ شمس الدين محمد بن إبراهيم المزين الدمشقي‏:‏ الطويل ولاية صدر الدين للسر كاتبًا لها في النفوس المطمئنة موقع فإن يضعوا الأشيا إذًا في محلها فلم يك غير السر للصدر موضع قلت‏:‏ وهجاه أيضًا بعضهم فقال‏:‏ الرجز كتابة السر غدت وجودها كالعدم وأصبحت بين الورى مصفوعةً بالأدم ومن شعر قاضي القضاة صدر الدين المذكور‏:‏ أنشدني الشيخ شمس الدين محمد النفيسي قال‏:‏ أنشدني قاضي القضاة صدر الدين بن الأدمي من لفظه لنفسه وهو مما يقرأ على قافيتين‏:‏ السريع يامتهمي بالسقم كن مسعفي ولا تطل رفضي فإني علي ل أنت خليلي فبحق الهوى كن لشجوني راحمًا يا خلي ل وله‏:‏ السريع قد نمق العاذل يا منيتي كلامه بالزور عند الملام وما درى جهلًا بأني فتىً لم يرع سمعي عاذلًا فيك لام وله القصيدة الطنانة التي أولها‏:‏‏.‏

عدمت غداة البين قلبي وناظري فيا مقلتي حاكي السحاب وناظري - انتهى‏.‏

وتوفي الشيخ الإمام العالم شهاب الدين أحمد بن علاء الدين حجي بن موسى السعدي الحسباني الأصل الدمشقي الشافعي بدمشق‏.‏

وكان فقيهًا بارعًا‏.‏

أفتى ودرس سنين وخطب بجامع دمشق وقدم القاهرة في دولة الملك الناصر فرج في الرسلية عن الأمير شيخ أعني الملك وتوفي قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن ناصر بن خليفة الباعوني الشافعي الدمشقي بدمشق في رابع المحرم‏.‏

ومولده بقرية باعونة من قرى عجلون في سنة إحدى وخمسين وسبعمائة تخمينًا‏.‏

ونشأ بدمشق وطلب العلم وتولى قضاء دمشق وخطابة بيت المقدس ودرس وأفتى وقال الشعر‏.‏

ولما ولي قضاء دمشق هجاه بعضهم بقوله‏:‏ مجزوء الوافر قضاء الشام أنشدنا بديني لا تبيعوني صفعت بكل مصفعة وبعد الكل باعويي وهجاه آخر عند توليته خطابة القدس بكلام مزعج الإضراب عنه أليق‏.‏

وتوفي قاضي القضاة شهاب الدين أحمد الحمصي الشافعي المعروف بابن الشنبلي في هذه السنة‏.‏

وكان فقيهًا بارعًا عالمًا‏.‏

إلا أنه لما ولي قضاء دمشق لم تحمد سيرته‏.‏

وتوفي قاضي القضاة شمس الدين محمد بن محمد بن عثمان الدمشقي الشافعي المعروف بابن الإخنائي بدمشق في نصف شهر رجب عن نحو ستين سنة بعد أن أفتى ودرس وولي قضاء غزة وحلب ودمشق وديار مصر عدة سنين‏.‏

وكان معدودًا من رؤساء دمشق وأعيانها وله مكارم وأفضال - رحمه الله‏.‏

وتوفي الأمير الوزير سيف الدين مبارك شاه بن عبد الله المظفري الظاهري في شهر رمضان‏.‏

كان يخدم الملك الظاهر برقوق أيام جنديته تبعًا فلما تسلطن رقاه وأمره ثم جعله من جملة الحجاب ثم ولي الوزارة ثم الأستادارية وأقام بعد عزله سنين إلى أن مات‏.‏

وتوفي قاضي المدينة النبوية زين الدين أبو بكر بن حسين بن عمر بن عبد الرحمن العثماني المراغي الشافعي المعروف بابن الحسين في سادس عشر ذي الحجة‏.‏

وكان من الفقهاء الفضلاء‏.‏